خطأ
  • XML Parsing Error at 9:12. Error 76: Mismatched tag

نمذجة المفاهيم على أساس نظرية الفكر المدون

الإثنين, 21 تشرين2/نوفمبر 2011 17:13
نشرت في آراء

الكفاءة و العدالة في النظام الإسلامي

مفهوم الكفاءة و ثلاثة تفاسير عنه:

الكفاءة شأنها كشأن باقي المفاهيم الانتزاعية تتحمل تفاسير و قراءات مختلفة و حتى متضادة. و لهذا دائما ما تثار في بيان النسبة و العلاقة بينها و بين غيرها من المفاهيم كالدين، نزاعات و خلافات و مواجهات نظرية و فكرية.

في ما يلي نشير إلى ثلاثة تفاسير مهمة عنها:

1. يختص التفسير الأول بتعريف الكفاءة من رؤية الحكومة غير الدينية.

فالكفاءة في رؤية الحكومة غير الدينية عبارة عن "قدرة الحكومة في إدارة مختلف شؤون الناس المرتبطة بالحكومة كالشؤون السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و غيرها.

و من الواضح أن هذا التعريف عن الكفاءة ناظر إلى مدى نجاح الحكومة في إدارة شؤون الناس الدنيوية.

2. التفسير الثاني له نظرة خارجية للدين و ينظر إلى الكفاءة من هذا المنظار. و إن هذا المنهج يعتبر الكفاءة غير منسجمة مع الدين. فعلى أساس هذا التفسير، ليس هناك أيّ انسجام مع "المفاهيم الدينية" و  "مقولة الكفاءة". و يعتقد أصحاب هذه الرؤية أن "الكفاءة" ناظرة إلى المسائل الدنيوية و لا علاقة لها بالأمور الأخروية. و طبقا لاستدلال أصحاب هذه الرؤية، باعتبار أن المسائل الدنيوية خارجة عن نطاق "الدين" فاتجاه كل من هذين المفهومين (الدين و الكفاءة) في مقابل اتجاه المفهوم الآخر، فكل يبتعد عن الآخر. و قد استندت بعض تفاسير المسيحية عن العلاقة بين الدين و الدنيا إلى هذه الرؤية. فيرى أصحاب هذه الرؤية أن إعمار الدنيا في النقطة المقابلة لفلاح الآخرة، و لا يوجدون أية علاقة بين هذين المفهومين. و بطبيعة الحال لا يمكن بهذه النظرة أن نفتش عن حكومة دينية كفوءة، حيث تعتبر مفهوم "الحكومة الدينية الكفوءة" مفهوما متناقضا في نفسه.|

3. التفسير الثالث كالتفسير السابق تفسيرا خارجيا عن الدين، بيد أنه ليس لا يرى عدم الانسجام بين الدين و الكفاءة و حسب، بل يعتبر أساس الدين قائما على الكفاءة.

وفي الواقع إن هذا القول الثالث الذي هو القول المختار، مخالف لتلك التفاسير عن الإسلام الذي ترتكز على نوع من الرهبنة و رفض الدنيا، و ينظر إلى الكفاءة بصفتها أبرز خصائص دين الإسلام.

 

الإسلام و الرهبنة:

من أهم و أكبر خصائص الإسلام في مقابل باقي الأديان، هو نوع التعاليم التي عرضها. الإسلام يقدم دينا لا يتعارض مع الدنيا أبدا، بل إنه قد جاء لتنظيم الحياة الدنيا و الأخذ بيد الإنسان مرورا من تطوير حياته الدنيوية إلى سعادته الأخروية، لا أن يحاول إعمار الآخرة من خلال تخريب الدنيا و هدم الحياة المادية. و لهذا يعارض الإسلام طريقة الرهبنة.

إن أساس معارضة الإسلام مع الرهبنة ليست في اعتزال الشخص عن المجتمع و اتخاذه حياة العزلة، بل يتعارض مع الفكر و المبدأ الذي يؤدي إلى الانزواء و الاعتزال، و هو ذلك المبدأ الذي يرى بوجود تعارض و تقابل بين الحياة الدنيوية و المفاهيم الأخروية و المعنوية. الإسلام يعتقد بعدم و جود هذا التقابل.  |

كفاءة الإسلام

من خلال ما ذكر، اتضح أن هناك انسجام كامل بين سياق و نصوص الإسلام (context). و لكن الكفاءة في النص لها مفهومها الخاص، و هو أن "الحكومة الكفوءة هي التي قادرة على إدارة شؤون الناس الدنيوية و في نفس الوقت تهدي اتجاه حياة الناس إلى المعنوية على مختلف الأبعاد." مثلا في مجال الاقتصاد حيث يراد منه تحسين المستوى الاقتصادي للناس، يجب أن تكون الأجواء الحاكمة على الاقتصاد بحيث توفر الأرضية للرشد و الارتقاء المعنوي لدى الناس.

فلهذا إذا كوّن مجتمع اقتصادا قويا نشطا و ناميا، بحيث يرتقي فيه مستوى رفاه الناس و يحظوا بمزيد من الراحة و المكنة الاقتصادية، و لكنه في نفس الوقت لم ترتق معنوية الناس في ضمن نشاطهم الاقتصادي أو تسوء أحيانا، نعتبر هذا الاقتصاد غير كفوء من الناحية الدينية.

وفي المجموع نستطيع أن نخرج بهذه النتيجة، و هي أن الكفاءة الدينية أو الكفاءة في متن الفكر الديني أعقد و أصعب من الكفاءة في الأمر غير الديني. إذ أن في هذه الكفاءة مضافا إلى إدارة الأمور الدنيوية، يُعنى بهداية الأمور الدينية باتجاه تنمية المجتمع في مجال المعنويات و الاعتقاد الديني، و فهم الدين و المعرفة العميقة.

لهذا لابد من الالتفات إلى أمرين في عملية تقييم كفاءة الحكومة الدينية؛ الأول مدى توفيق هذه الحكومة في إدارة شؤون الناس، و الثاني، كم كان لإنجازاتها دور في ترقية المعنوية و نشر القيم الدينية في المجتمع.

 

محورية التكليف في الدين و مقولة الكفاءة

القضية التي يمكن أن تخطر على البال بالنسبة إلى علاقة الدين مع الكفاءة، هو إمكان كفاءة الدين مع تمسكه بمبدأ محورية التكليف. بعبارة أخرى كيف يمكن توقع الكفاءة من الدين و هو يؤمن بمبدأ "محورية التكليف". مع أن الكثير من التكاليف قد تمثّل مانعا أمام تنمية المجتمعات و تطورّها و رقيّها.

لابد أن نقول في هذا المجال إذا كان الدين (نعني دين الإسلام) محوريّ التكليف، فلابد أن نعرف هذه الحقيقة و هي أن هذه التكاليف ناشئة من المعايير التكوينية في الناس؛ يعني بما أن الشارع خالق الناس و يعلم هويتهم التكوينية، فقد أمر و كلّف ما ينسجم مع هويتنا التكوينية. فإن هذه التكاليف قادرة على إصلاح حياتنا الدنيوية و في نفس الوقت تقوّي المعنوية التي هي غاية هدف الدين.

إذن ليس هناك تعارض بين محورية التكليف و الكفاءة في الدين، بل إن التكاليف الدينية جاءت من أجل تحقيق الكفاءة و لهذا التفت الدين إلى هذه القضية و هي إن فَقَد التكليف كفاءته بسبب بعض الظروف أو أصبح ضد الكفاءة، عند ذلك يتغير التكليف. هنا إن كان هذا التعارض أمرا فرديا، يوكل تشخيص التكليف لنفس الشخص مع اعتبار بعض الضوابط و المعايير. و إن كانت قضية اجتماعية، فتوكل المسألة بيد مدير المجتمع و هو "الولي الفقيه" أيضا مع مراعاة الضوابط و المعايير الخاصة.

نستطيع أن نشاهد أبرز هذه النماذج في "الأحكام الثانوية". إن منطلق هذه الأحكام هو أنّ تطبيق بعض الأحكام في المجتمع قد تتعارض مع أهداف الدين؛ أي تتعارض مع باقي أهداف الدين، هنا تأتي الأحكام الثانوية لغرض تأمين مصالح الدنيا و الآخرة.

 

الثورة الإسلامية و مقولة الكفاءة

لقد أعطت الثورة الإسلامية اليوم و بعد مرور 32 سنة نموذجا عينيا من الحكومة المرتكزة على الأساليب الدينية، و باعتقادي أن هذا النموذج يحتوي على مؤشرات الحكومة الحديثة. يعني يمكن أن نعتبر النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية في إيران حكومة حديثة مرتكزة على المفاهيم الدينية.

ولهذا يجب اليوم و بعد مرور 32 سنة من عمر الثورة الإسلامية أن نقوم بدراسة إنجازات الثورة و نقيّم مدى تحقق مُثُل هذه الثورة من خلال رصد علل و عوامل تشكيل هذا النظام السياسي و استمراره و نضجه.

 

ضرورة النمذجة

نظرا إلى ماهية النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية في إيران، بطبيعة الحال إحدى القضايا الحساسة جدا هو متابعة و استمرار الكفاءة. يعني إن لم نستطع أن نقدم رؤية واضحة عن قضية كفاءة الدين، لا شك في أننا سوف نواجه مشاكل جادة في مستقبل حركة الثورة. و من أهم الحلول هو تقديم "النموذج".

 

شروط النمذجة

1. تقديم المؤشر:

من أهم الأبحاث التي دخلت أخيرا في الأوساط العلمية من الجامعية و الحوزوية بشكل محسوس، هو النموذج الإيراني الإسلامي للتطور. يشير هذا النموذج إلى أنه لابد للتطور أن يتّصف بمعيارين.

المعيار الأول في هذا النوذج هو أن يكون إسلاميا، يعني مأخوذا من وحي المفاهيم الإسلامية التي ليست محدودة بظروف الزمان و المكان.

المعيار الثاني لهذا النموذج هو أن يكون إيرانيا. و في الواقع إن هذا المعيار ناظر إلى ضرورة أخذ ظروف الزمان و المكان بنظر الاعتبار في قضية التطور.

و لهذا السبب لا يكفي اليوم مجرد إعطاء مفاهيم عامة عن الكفاءة إن أردنا الحديث عنها، بل يجب أن نتجه إلى إعطاء نموذج واضح و جامع لبيان كفاءة الدين.

2. ضرورة العمل النظري:

الأمر الثاني الذي يجب أن نهتم به في عملية النمذجة هو العمل النظري، إذ ينبغي للمحقق أن تكون له وجهة نظر واضحة تجاه الأسس النظرية. و لولا ذلك سيواجه مشاكل بطبيعة الحال. فعلى سبيل المثال و باعتبار المثال أعلاه يعني النموذج الإيراني الإسلامي للتطور، إحدى الأسس هي أن المفاهيم الإسلامية، ليست تابعة لظروف الزمان و المكان، بل إنما هي أعلى من الزمان و المكان و مفاهيم ثابتة و شاملة. فإن لم يتضح هذا المبنى، لا يمكن التقدم بالبحث و الوصول إلى مراحله التالية.

بعد ما اتضح شمولية هذه المفاهيم، يأتي هذا السؤال و هي أن في مقام التطبيق، كيف كانت تطبق هذه المفاهيم في زمن المعصوم؟ هل كانوا يلاحظون ظروف الزمان و المكان في عملية تطبيق هذه المفاهيم أم لا؟ فعلى سبيل المثال، لو كان يحكم مدينةَ الرسول (ص) نظام اقتصادي خاص، فهل في اعتماد هذا النظام قد أخذت بنظر الاعتبار خصائص جزيرة العرب في ذلك الزمان أم لا؟ لقد لوحظت بلا شك.

فإن لوحظت هذه الخصائص، فلابد أن نفرّق بين هذه الخصائص التي كانت خاصة بتلك الظروف و بين تلك المفاهيم الشاملة التي لا تختص بتلك الظروف، إذ لولا هذا التفكيك تبقى الكثير من المشاكل عويصة غير محلولة. إن هذا الأمر، أي أهمية التفكيك بين هذين الأمرين أدت إلى تكوّن ثلاث فئات فكرية، أذكر عناوينها فيما يلي:

1. الفئة الأولى أولئك الذين وقعوا في انحرافات بسبب عدم التفكيك بين معياري "الثوابت" و "المتغيرات".

كان هؤلاء يرفضون الاقتصاد الإسلامي بحجة أنه اقتصاد الصوف و الجمل و متعلّق باقتصاد بسيط يعود إلى قبل 1400 سنة، و إنه لا ينفع العالم اليوم مع تعقيداته هذه.

2. النقطة المقابلة لهؤلاء، هم أولئك الذين كانوا متدينين و يحاولون أن يدافعوا عن الدين.

إن هؤلاء كانوا يواجهون العالم الجديد و ظروف الزمان و المكان برمّتها، حيث كانوا قد اتخذوا موقفا ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران بأن هذه الجمهورية الإسلامية لا تمثّل نموذجا إسلاميا منطبقا على الأنظمة القديمة و التقليدية؛ لأن أمير المؤمنين (ع) لم يفكك في حكومته بين القوى، و لم يكن مجلس أو مجلس الوزراء و غيرها، و عليه فإن هذه التشكيلات نوع من البدعة. إذن فالهيكلية التي قامت على أساسها حكومة الجمهورية الإسلامية غير إسلامية.

3. الفئة الفكرية الثالثة هم أولئك الذين عرفوا هذين العنصرين و قاموا بتحليلهما في العصر الحاضر.

إن استدلال الفئة الثالثة على الفئة الأولى ـ و هو القول المختار ـ هو أن صحيح أن المجتمع النبوي (ص) قبل 1400 سنة كان مجتمعا بسيطا و كان نظامه السياسي و الثقافي و الاقتصادي نظاما بسيطا، و لكن نفس ذلك النظام الاقتصادي البسيط يتصف ببعض الضوابط التي يمكن تطبيقها على الاقتصاد المعقّد الحديث.

و كذلك تقول في مقابل الفئة الثانية بأن لا يمكن النظر بهذا الأسلوب إلى تاريخ الأنبياء بحيث كأنما كانوا يعيشون بمعزل عن ظروف و مقتضيات الزمان و المكان، بل كان الأنبياء يعيشون حياة عادية كباقي الناس، و كانت حياتهم ملائمة لما تقتضيه ظروف الزمان. و بطبيعة الحال كانوا يصدرون أوامر بمقتضى ظروف زمانهم و مكانهم. إذن يمكن أن تكون بعض معايير حكومة أمير المؤمنين (ع) أو حكومة النبي (ص) معايير خاصة بزمانهم، فعلى سبيل المثال كانت الظروف السياسية و الثقافية و الاجتماعية في زمان النبي (ص) تقتضي أن تكون الحكومة بشكل "الإمارة" و من خلالها يحكم الأمير بحسب صلاحياته في مختلف المجالات التنفيذية و التقنينية و القضائية.

إذن لابد من كشف معيارين في تاريخ الأنبياء؛ الأول هو المعايير الثابتة المستنبطة من المفاهيم الدينة و إنها مفاهيم شاملة. و الثاني هي المتغيرات التي تخضع لظروف و مقتضيات الزمان و المكان. إذن يمكن أن نتكلم عن نماذج إسلامية متعددة للتطور. فعلى سبيل المثال كان نموذج النبي (ص) في صدر الإسلام نموذجا إسلاميا حجازيا للتطور.

من هذا المنطلق لابدّ من التفكيك بين العناصر المتعلقة بالحجاز و ما قبل 1400 سنة و بين العناصر التي ليست متعلقة بها؛ طبعا نفس هذا التفكيك بحاجة إلى أسس نظرية في المنهجية العلمية، و قد تمت المحاولة في "نظرية الفكر المدون" في طرح هذه الأسس النظرية و المنهجية العلمية.

لهذا لا يمكن أن ندّعي ضرورة الأكل باليد و تحريم استخدام الوسائل الحديثة بمجرد كون النبي (ص) كان يتناول الطعام بيده في ذلك العصر. بل باعتبار أن حين ظهور الإسلام في الحجاز كانت السنة العامة بين الناس هو الأكل باليد، جاء الإسلام و أعطى هذه التصرفات صبغة معنوية و أضافها بعض القواعد و الآداب كغسل الأيدي قبل الطعام و البسملة و الأكل باليمين و تصغير اللقم و غيرها.

إذن من أهم الأعمال التي يجب إنجازها في عملية "النمذجة" هو العمل النظري.

المشكلة التي نواجهها الآن، متعلقة بهذا المجال، أي المجال النظري. لا توجد هناك مشكلة أو شك في أصل العمل و الفكرة و ضرورتها، و لكن المشكلة الوحيدة هي افتقاد هذا المشروع للرصيد النظري القوي.

إحدى الأعمال التي أنجزت في هذا المسار هو تدوين "نظرية الفكر المدون". و إلى الآن لم تأخذ هذه النظرية موقعها بين العلماء و المثقفين، طبعا هناك مساع جادة في سبيل تحقيق هذا الغرض.

إن سبب وجوب و ضرورة العمل النظري هو أننا سوف نستطيع أن نعبر من الكلام العام و الغامض و نحصل من خلاله على نتائج خاصة و نعطي عبر هذا المنهج بعض القوانين و القواعد للمجتمع ليتمّ على أساسها وصف كيفية العمل في مختلف المجالات الاقتصادية و السياسية و الثقافية و غيرها، بحيث تكون هذه الوصفات محققة لسعادة الناس في الآخرة.

 

الهدف من النمذجة

الهدف من المنذجة بشكل عام ليس تقرير الوضع الموجود، بل المراد و المقصود من النمذجة هو العبور من الوضع الموجود إلى الوضع المطلوب. إنما يطرح النموذج عندما أراد الأشخاص أن يحصلوا على ما هو أفضل، هنا تحاول الفرق و الأفكار المختلفة أن يرسموا الوضع المطلوب من خلال الشرح و التوضيح و على أساس المفاهيم القيمية لكي يوجدوا الدافع المحرك باتجاه هذا الهدف. فعلى سبيل المثال لقد تم تعيين هذا الهدف في النموذج الرأسمالي بأن يجب أن يكون الاتجاه في سبيل رفع كافة أنواع الاحتكار، و أن تحكم الحرية الاقتصادية المطلقة، بحيث يسمح لأي شخص أن يمارس نشاطه الاقتصادي و يحصل على الأموال بحسب طاقته الاقتصادية.

وفي الواقع إن رسالة الهدف أعلاه هو أن الوضع الفعلي يعاني من الاحتكار، و لم يكن المجال مفتوحا للجميع، فإذن لابد من الحركة باتجاه ذلك الوضع المطلوب.

كذلك الحال بالنسبة إلى النموذج الاشتراكي و الماركسي، حيث جعلوا هدفهم توفير الإمكانات الاقتصادية المساوية للجميع.

إذن أيّ نموذج يطرح، فهو يهدف إلى العبور من الوضع الموجود إلى الوضع المطلوب، و لهذا فوجود المثل و الغاية المطلوبة أمر ضروري لكل نموذج.

بالنسبة إلى المُثُل لابد من ذكر قضيتين؛ الأولى هي أنه يجب أن تكون المثل منسجمة مع الأسس التي نعتقد بها و الأخرى أن تكون هذه الغاية المثالية أمرا ممكنا غير مستحيل. في حين أن الكثير من المثل التي تذكر في النظام الرأسمالي غير قابلة للتحقيق. فعلى سبيل المثال يطرحون نموذج السوق الحرّ الاقتصادي، و يقولون إن تحقق السوق الحر بمعناه الرأسمالي إنما يتمّ في آن واحد. يعني بمجرد أن يتكوّن هذا السوق الحرّ، يأتي المتمكّنون و يسيطرون على إمكانات السوق، و مباشرة بعد سيطرتهم على الإمكانات و الفرص في السوق، تبدأ الاحتكارات و بالتالي تنتهي مصداقية السوق الحرّ. و بتعبير أفضل يعتقدون أن السوق الحرّ أمر آني و لا يتحقق إلا في لحظة واحدة.

 

الفارق بين الفكر الإسلامي و غيره في الحاجة إلى إعادة النظر

من الخطأ أن يتوهم أحد بأن النظام الرأسمالي سوف يغير أصوله و أسسه إذا واجه مشكلة في الواقع، بعبارة أخرى ليس للأمر الواقع دور في تغيير النظام الرأسمالي؛ إذ أن أصول الاقتصاد الرأسمالي وراء الواقع و ليس لها علاقة بالواقع. إن أصول الرأسمالية تريد أن تصنع الواقع لا أن تصف الواقع. كذا الحال في الأسس الماركسية. فعلى هذا الأساس كلما واجهوا مشكلة في عملية صنع الواقع يعيدون النظر في نظرياتهم.

في حين أن آلية و ضوابط إعادة النظر تختلف في الفكر الإسلامي الشيعي بشكل أساسي. حيث إن الدين على أساس الأسس الكلامية الشيعية ناظر إلى حقائق هذا العالم و إن مصدر الدين؛ أي و جود الله تبارك و تعالى عالم بجميع زوايا هذا العالم. و عليه فلا ينبغي التوهم بأن هناك شيء لم يصل إليه علمه. ثانيا هناك انسجام بين المفاهيم الدينية في مختلف المجالات، و لهذا لا يمكن أن يكون تعارض بين المفاهيم الاقتصادية و السياسية، أو بين المفاهيم السياسية و الثقافية و هكذا. من هذا المنطلق و باعتبار إمكان صدور الخطأ من قبلنا، خاصة و إن مبنى مدرسة الشيعة قائم على مبدأ التخطئة، فيحتمل أن لا يكون كشفنا مطابقا للواقع. إذن فإن انكشف الخطأ نقم بإعادة النظر.

إحدى الأمور التي نتبناها في نظرية الفكر المدون هي أنه بعد ما كشفنا العناصر الاقتصادية و بعدها السياسية، نبدأ بالتنسيق و إيجاد الانسجام بين هذه العناصر، فإن وجدنا عدم الانسجام، نكشف وقوع خطأ ما، إذ لا وجود لهذا التعارض في الواقع و إنما نحن الذين أخطأنا في عملية كشف العناصر. إذن لن تنجز هذه الفكرة إلا بعد أن نصل إلى مجموعة منسجمة. بعد ذلك لا نحتاج إلى إعادة النظر ما دمنا لم نواجه خللا في انسجام المجموعة، و لكن بمجرد أن واجهت المجموعة مشكلة و وجدنا أن العناصر التي و ضعناها في هذا النظام و قد تصورنا بأنها توصلنا إلى الأهداف على أساس هذه المباني، لا توصلنا إلى الأهداف لوجود بعض الثغور، هنا نكشف بأن ما عرضناه تحت عنوان النظام كان ناقصا أو قد أخطأنا في تطبيق النظام الكامل على ظروفنا الحالية، فنحتاج إلى إعادة النظر.

طبعا لابد أن تتم إعادة نظرنا في ظرف خاص و ضمن معايير خاصة، لأننا كاشفون و قد نخطأ في عملية الكشف، و لهذا يجب أن نقوم بعملية التصحيح بشكل دائم.

يمكن أن يتمّ هذا التصحيح بطريقين أساسيين؛ إما عن طريق استنباط العناصر بشكل جزئي، أو عن طريق استنباط المدرسة و النظام.

في القسم الأول أي استنباط العناصر التي عبّرنا عنها في نظرية الفكر المدون بالحقوق، قد أنجزت أعمال كثيرة على مرّ التاريخ، أما في القسم الثاني أي استنباط المدرسة و النظام لم ينجز شيء يعتدّ به.

في استنباط المدرسة يمكن أن نشير إلى ما أنجزه الشهيد الصدر في كتاب "اقتصادانا". و في الواقع إن الشهيد الصدر و من خلال إنجازه في هذا الكتاب قد اكتشف المدرسة لا النظام. مع أن بعض الأعمال المحققة في هذا المجال أي استنباط الأنظمة الاقتصادية مع كونها كلية و لكنها في حد ذاتها أمر جزئي، إذ يجب أن تكون في الرؤية الأعم و الأشمل منسجمة مع الأنظمة السياسية و الثقافية و غيرها. و في الواقع نادرا ما حصلت هذه الأعمال في فقهنا، إذ لا يمكن أن تكون مستنبطاتنا متعارضة مع بعض.

لهذا و باعتبار عدم و جود التعارض و عدم الانسجام في أصل الشريعة، فإذا واجهنا بعض التعارض في اكتشافاتنا يجب أن نصلح اكتشافنا و نعيد النظر فيه. إذن باب إعادة النظر في اكتشافاتنا و استنباطاتنا مفتوح دائما و بإمكاننا أن نخضعها لمحك النقد و التحليل بشكل دائم.

باعتبار أن أساس الاعتماد في الأفكار غير الإسلامية بشكل عام هو الجعل، فكلما اقتضت عملية الجعل أو صنع الواقع، لابد من إعادة النظر، أما في الفكر الإسلامي الشيعي فباعتبار أن الأساس قائم على الكشف، فالملاك في إعادة النظر هو معايير من قبيل عدم الانطباق مع واقع الشرع و كشف التعارض مع الشرع.

 

الدليل على وجود الثوابت و المتغيرات في الدين

قد يتبادر هذا السؤال و هو أساسا ما الدليل على وجود الثوابت و المتغيرات في الدين؟ لماذا ندعي وجود الثوابت و المتغيرات في الدين؟ إن أفضل و أهم دليل على هذا الأمر هو خاتمية دين الإسلام. لا شك في أن الدين الذي جاء إلى الأبد و مهمته أن يهدي جميع البشر على مرّ التاريخ، لا يمكنه أن يتحدد بمنطقة خاصة كالجزيرة العربية إذ أن جزيرة العرب لها ظروفها الخاصة بها و ليس بإمكانها أن تغطي خصائص جميع الأمكنة و الأزمنة. لهذا يدعى وجود الثوابت و المتغيرات في الدين. الثوابت هي الأمور العالمية التي تشمل الأزمنة و الأمكنة جميعا، و المتغيرات هي التي تتلون و تتغير بتغير الزمان و المكان. إذن فمعرفة الإسلام بشكل صحيح متعلقة بتفكيك العناصر الشاملة الثابتة عن العناصر المتغيرة.

و هناك شواهد كثيرة دالة على هذه الحقيقة، أي وجود الثوابت و المتغيرات. كما قد أكد الفقهاء كثيرا على هذه الفكرة و كانت مورد اهتمامهم دائما و كثيرا ما استخدموا هذه الفكرة لحل المعضلات الفقهية.

أحد هذه النماذج هو بيع السلاح من أعداء الدين في حال الحرب. فقد تحير الشيخ الأنصاري في المكاسب في كيفية الجمع بين الروايات و تحليلها. إذ قد منعت البيعَ بعض الروايات وحللتها روايات أخر. ولكن السيد الإمام باعتباره كان متفطنا بالأحكام المتغيرة، لم يتحيّر كما تحيّر الشيخ و تناول هذه المسألة بكل سهولة. حيث قال: إن بيع السلاح من أعداء الدين في حال الحرب حرام في بعض الظروف و مكروه في بعض الظروف و مباح في بعض.

إذن "بيع السلاح" يحتوي على خمسة أحكام تكليفية بحسب ظروف و مقتضيات الزمان و المكان. و في الحقيقة إن الإمام (ره) قد حلّ التعارض الظاهري بين الروايات بهذا الأسلوب من خلال التفاته إلى وجود الأحكام المتغيرة.

الشاهد الآخر على هذه الفكرة و إقرار الفقهاء بوجود الثابت و المتغير في الدين هو نظرية "منطقة الفراغ" للشهيد الصدر. حيث كان يعتقد الشهيد الصدر أن الشارع قد شرّع، بيد أن تشريعه ليس كاملا، بل قد ترك بعض المجالات و المناطق فارغة، و لابدّ لنا من ملأ منطقة الفراغ باستعانة ما شرّعه الشارع. فتكليفنا هو ملأ منطقة الفراغ بالأحكام المناسبة.[1]

 


[1]. مشروح محاضرة آية الله الهادوي الطهراني المنشور في صحيفة خردنامه همشهري، الدورة الجديدة، خرداد 1390، العدد 78، ص 9ـ 17.